كثيرُ الكلام , قليلُ الإستماع , ضيّقُ الأفق .. ما إن يرى محاوره قد بدأ في طرح وجهة نظر مخالفة لقناعاته , حتى يقاطعه ويُسكته , مهما كانت وجهات نظر ذلك الشخص منطقية ومدعّمة بالحجج والبراهين .
وإذا لم يكن محظوظاً ولم ينجح في اسكاته .. فإنه يتلقى وجهة النظر المختلفة تلقي المستمع الذي لا يَعقل , يأبى أن تتعدى وجهات نظر الآخرين -مهما كانت منطقية- صيوان أذنه .. أي أنه لا يفكر فيها قبل أن يحدد موقفه من حيث قبولها أو رفضها , بل يرفضها مباشرة , بلا تفكير !
الإختلاف , سنةٌ كونية وإرادةٌ الهية وطبيعةٌ إنسانية فُطر عليها البشر , قال تعالى : "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين "
ونحن قد نتعامل مع هذه الطبيعة الفطرية بطُرُقٍ بناءة , أو هدامة .
فللإختلاف الهدّام صوَرٌ كثيرة ؛ منها تولُّد العداوات من بعض النقاشات , أو خُلُو النقاش من الإحترام المتبادل .
ومن صور الإختلاف الهدامة أيضاً , هي ثقافة عدم قبول الإختلاف أصلاً ...عدم التفكير في وجهات نظر الآخرين المختلفة بل رفضها مباشرةً , والتقوقُع عند القناعات التي كوّنها الشخص ورفض مادونها مهما كان منطقيّاً وصائباً .
ومن ناحيةٍ أخرى , الإختلاف قد يبني الكثير ؛ إذا ما تم تقبّله بإيجابية , ولم يُكابر أيّ الأطراف عن الإقتناع بوجهة النظر الأخرى مادامت مُدعّمة بالبراهين والأدلة .. وموافقة للعقل والمنطق , وأقرب إلى الصواب من قناعاته .
ومن أسباب ضيق الأفق, وعدم قبول الإختلاف , بناء وجهات النظر على الأهواء الشخصية لا على المنطق والعقل والبراهين , فصاحب وجهة النظر القاصرة السطحية -المُسنَدة إلى هواه - دائما ما يكون متمسّكاً بها , ويأبى أن يستمع إلى غيرها أشد الإباء , وأن يوصل ما يخالفها الى عقله ؛ فاقتناعه بالفكرة الجديدة قد يتضارب مع مصالحه الشخصية وهواه ويُحيي في نفسه شيئاً من الصراع الداخلي . وكما قيل : آفة الرأي الهوى .
والإنسان المتفتح الواعي , يتجرد من هواه ومصالحه للوصول إلى القناعات الصحيحة , الأقرب إلى الصواب , ولا يستبعد أن يجد ذلك في وجهة نظر مخالفة له .
ومما لا شك فيه , أن الأشخاص "المتقوقعين " يواجهون مشكلة عويصة في تقبّل النقد - البناء والهدام على حد سواء - , فهم يرون دائماً أنهم على صواب . وهم لا يقبلون وجهات النظر عامة , فكيف يتقبلون وجهات النظر الموجهة إليهم بصفة شخصية ؟!.. وهؤلاء , لا أمل في رُقيّهم وتطويرهم لذواتهم ما داموا لا يتحلّون برحابة الصدر الكافية لتقبل النقد والتفكير فيه بجدية , وسيظلون -ما امتدت بهم الحياة- مُحاصرين في قواقعهم -باختيارهم وبإرادتهم الحرة- .. فتقبّل نقد الآخرين من أهم ما يساعد الإنسان على تطوير شخصيته والإرتقاء بها وجبره لبعض نقصها وخللها .
استمع لوجهات النظر المختلفة , وحللها , وقس مدى واقعيّتها , وزِنها بموازين المنطق , واسأل نفسك : هل تفوق قناعاتك في واقعيتها واقترابها من الصواب؟... ثم اقبلها , أو ارفضها .
حينئذٍ , تكون قد صُنّفت من ذوي الفِكر المستنير والأفق الواسع وتكون قد تحررت من قيود تعصبك لوجهات نظرك .. فهنيئاً لك !
واعلم ...
أن استعلائك عن نقد -أفكارك أو شخصيتك- ورفضك إياه مباشرة بمجرد سماعه , دون تفكيرٍ متروٍ عادل , واعادة نظر... ما هوَ إلا عقبة في طريق تطوير فكرِكَ وشخصيتك .. وستبقى متوقفاً مكانك ما دُمت تنتهج هذا المنهج !
فاعقد العزم على أن تكون رحْب الصدر , واسع الأفُق , قابلاً لتصحيح قناعاتك .