معروفٌ أن حفظ أول وآخر عشرَ آياتٍ من سورة الكهف يعصم من شرّ فتنةٍ تُنتظر,
وهي فتنة المسيحِ الدجال , وأن قراءة هذه السورة يوم الجمعة سبب لحصول النور والبركة كما
ذكرت الأحاديث الصحيحة .
لكن يا تُرى.. لماذا تعصم قراءة هذه السورة دون غيرها من فتنة الدجال؟
ولمَ خصها النبي صلى الله عليه وسلم بالوصاية على قراءتها كلّ جُمُعة ؟
ذكرت هذه السورة قصصاً أربع , تُمثل كلٌّ منها فتنة من الفتن الأربع
المحورية التي يتعرض لها البشر ( فتنة
الدين – فتنة المال – فتنة العلم – فتنة السلطة ) وذكر الله تبارك وتعالى في نهاية
كل قصة طريقة الاحتراز من الفتنة التي تمثلها والعصمة منها , ولأن المسيح الدجال
يأتي بهذه الفتن الأربع ليفتن الناس بها ؛ كانت قراءة هذه السورة وتدبُّر معانيها
عصمةً من شرّ فتنته .
1- قصة أصحاب الكهف : تُمثّل هذه القصة فتنة الدين , فأصحاب الكهف هم
فتيةٌ آمنو بوحدانية الله واهتدوا لطريق الحق, فاعتزلوا قومهم الكفار المشركين ,
وهربوا بدينهم إلى كهفٍ موحِش , وذُكرت قصتهم في السورة من الآية 9-28 , وفي نهاية
القصة ذكر الله طريقة الاحتراز من فتنة الدين والعصمة منها فقال تعالى : " وَاصْبِرْ
نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ
أَمْرُهُ فُرُطًا وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن
شَاء فَلْيَكْفُرْ " فيكون الاحتراز من فتنة الدين بمجالسة الصالحين وصُحبتهم والبعد عن أهل
التفريط والغواية . وقوله تعالى : "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن
شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ " يبين وجوب الصدع بالحق وتبليغه
فإن لم يجدي هذا فاعتزال الباطل وأهله , قال صلى الله عليه وسلم : " من رأى
منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف
الإيمان " .
2- قصة صاحب الجنتين : وهي تحكي عن رجل أوتي مالاً وولداً فكفر بأنعُم
ربه وأنكر البعث وجحده , فأهلك الله ماله وحرثه . وتبين هذه القصة فتنة
"المال التي ذكر الله طريقة الاحتراز منها بقوله تعالى في ختام القصة :
"وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ
الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا , الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ
عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا" فيكون الاحتراز من هذه الفتنة بالوقوف
على حقيقة الدنيا سريعةِ الزوال والحياة سريعةِ الانقضاء وتذكر الآخرة , والتيقُّن
أن كل الأموال والأملاك مآلها إلى الزوال والفناء, قال صلى الله عليه وسلم :
" كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " فهذه نصيحة رائعة من الرسول صلى
الله عليه وسلم تحثنا على الاستعداد لدار الخلود والمُقامة وعدم الاستغراق في
التمتع بمتع الدنيا الزائلة .
3- قصة
موسى عليه السلام والخضر : رُوي أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسُئل أي الناس
أعلم , فقال : أنا . فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه , وأوحى إليه أن له
عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منه . فذهب موسى عليه السلام للقائه والتعلم منه , وذكر
القصة بالتفصيل يأتي في الآيات 60-82 , وطرق الاحتراز من فتنة العلم التي تمثلها هذه القصة, ذُكرت في قوله
تعالى في نهاية القصة على لسان الخضر : " وَمَا
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا" فيكون الاحتراز من هذه الفتنة بـ :
1- اليقين الذي لا يراوده شكٌ أن كل ما معه من علمٍ هو من محض فضل الله عليه , وأن الله أعلم العالِمين [ عَلّمَ الإنْسَانَ مَالَمْ يَعْلَم ] العلق 5 . 2- بالصبر على التعلم
والاستزادة من العلم وألا يقف عند حدٍّ أو قدرٍ معيّنٍ منه .
4- قصة ذي القرنين : تتحدث قصته عن فتنة السلطة , حيث كان ملكاً صالحاً
قوياً حكيماً بلغ مشارق الأرض ومغاربها , وفي رحلة من رحلاته استغاثه قومٌ وطلبوا
منه بناء سدٍ يحجز يأجوج ومأجوج عنهم –ويأجوج ومأجوج هما قبيلتان من بني آدم كانوا
من أكلة لحوم البشر- فأقام بينهم السد , وهذا السد مازال قائماً حتى الآن وهدمه
وخروج يأجوج ويأجوج من علامات الساعة الكبرى . وذكر الله تعالى طريق العصمة فتنة
السلطة فقال عز وجل : "قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ
وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا" فالعصمة من
هذه الفتنة تكون بمعرفة الإنسان لقدره واستشعاره لفضل الله عليه بأن هو من آتاه
القوة والملك, وأن الله تبارك وتعالى يستطيع إزالة كل هذا بلمح البصر أو أسرع , كما
يجب عليه أن يعلم جيداً ويوقن أن مآل سلطته هذه إلى الزوال والفناء –كباقي أملاكه
الدُّنيوية- , فليستغلها استغلالاً ينفعه يوم المعاد .
- الشيطان هو السبب الأساسيُّ والمحوري وراء الفتن السابقة جميعها ؛ وهو
من يُزيّنها للعباد ليؤدي وظيفته في اغوائهم , وقد ذُكرت قصته واستكباره عن السجود
لآدم عليه السلام في وسط الصورة تماماً (في الصفحة السادسة من السورة والسورة احدى عشرة صفحة) . قال تعالى : " وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ
الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ
أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا " .
وختاماً أقول ما كان يُفترض أن أستهلّ به حديثي....
" الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ
وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا"
وأتمنى لكم قراءة ممتعةً للسورة :)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق